تَقَدُّمُ البشرية نحوَ حضرة بهاءُالله 2-3


تَقَدُّمُ البشرية نحوَ حضرة بهاءُالله 2-3

 

لقد دعا حضرة بهاءالله إلى وحدانية الله ووحدة الجنس البشرى، وقال إن الرسالات السماوية ماهى إلا مراحل فى الكشف عن الإرادة الإلهية لتحقيق الهدف من خلق الإنسان. كما أعلن مجئ الزمان الذى أخبرت به جميع الكتب السماوية، وأنه سوف تشهد الإنسانية أخيراً اتحاد كافة الشعوب والأمم فى مجتمع ينعم بالسلام والتكامل والتآخى. وهذا ما لاحظنا بشائره بمنتهى الوضوح، من خلال المسيرة التطورية للمجتمع الإنسانى عبر تاريخه الطويل فى سياق وحدة أو اتحاد العائلة والقبيلة، ثم اتحاد المدينة-الدولة، وقيام الأمة-الدولة. أما اتحاد العالم بِدُولِهِ وشعوبه فهو الهدف الذى نرى الخطوات الحثيثة لدعمه وهى خطوات ولو متعثرة ودونها آلام المخاض العسيرة، غير أنها خطوات تدل كل الظواهر والمؤشرات على أنها واثقة وكبيرة ومستبشرة. وليس أدل على ذلك من قيام عصبة الأمم وبعدها هيئة الأمم المتحدة، والوكالات المتخصصة التابعة لها، ناهيك عن المنظمات الإقليمية والعالمية متعددة الوجوه والإهتمامات، والتى نشأت خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. ولنا مما اصطلح على تسميته حرب الخليج التانية سنة 1991، أسطع مثال حين تحرك المجتمع الدولى بكل تناقضاته السياسية آنذاك، واشتركت معظم الدول بقوات رمزية تحت مظلة الأمم المتحدة لجبه العدوان على الكويت. هذا بالإضافة إلى مثل حىّ آخر تجسد بتوجيه ضربات عسكرية مباشرة، وبمظلة دولية أيضاً، إلى مسيحى الصرب اليوغسلاف، وذلك دفاعاً عن المسلمين فى كوسوفو سنة 1995، بعد ما تعرضوا له من هجمات (صليبية) فى منحاها. ناهيك عن الكثير من المحاولات والتدخلات فى كثير من الأماكن والبؤر المتوترة فى العالم، تراوحت نتائجها بين النجاح والفشل وذلك بسبب ظروف لم تنضج بعد بما فيه الكفاية لتحديد وضبط معيار مُوحّد ومميز ومدعوم بقرار يستند إلى الشرعية الدولية اللازمة له. غير أنه وبالرغم من ذلك فإن هذه المحاولات والإقدامات لاشك أنها تبشر بالخير.
كما نادى حضرة بهاءالله بنظام عالمى جديد واصفاً التغييرات السياسية والإجتماعية والدينية التى تعصف بحياة البشر بقوله “نشاهد اليوم علامات الهرج والمرج الوشيك حيثُ أن النظام القائم ويا للأسف فى نقص مبين”، وأنه “سوف يطوى بساط هذا العالم ليحل محله بساط آخر”، ولتحقيق ذلك وجه نداؤه المبارك لقادة العالم وشعوبه وحمّلهم المسئولية بقوله “ليس الفخر لم يحب الوطن بل لمن يحب العالم”. ويعتبر العالم فى الحقيقة وطناً واحداً ومن على الأرض أهله”.
وكأنى بوصيته لأولى الأمر والنهى بأن تكون نظرتهم شاملة للعالم لا أن تنحصر فى نفوسهم، “لا تنهمكوا فى شؤون أنفسكم بل فكّروا فى إصلاح العالم وتهذيب الأمم”. كأنى بهذه الوصية لاقت وتلاقى اليوم آذاناً صاغية، وليس أدل على ذلك من المقدمة الملهمة لميثاق الأمم المتحدة وما ورد فيها لجهة: “نحن شعوب الأمم المتحدة، قد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب… وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان… وأن ندفع بالرقى الإجتماعى قٌدماً. وفى سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح. وأن نعيش معاً فى سلام وحسن جوار. وأن نضم قوانا كى نحتفظ بالسلم والأمن الدولى… وألاّ نستخدم القوة المسلحة فى غير المصلحة المشتركة… قد قرّرنا أن نوّحد جهودنا لتحقيق هذه الأغراض”.
إنه ولئن كانت الأهداف أعلاه لم تتحقق بالكامل لألف سبب وسبب، إلا أن الإصرار عليها والتقدم باقتراحات إصلاحية على ميثاق الهيئة لزيادة فعاليتها، ( ومنها توصيات خاصة صدرت عن الجامعة البهائية العالمية فى هذا الإطار لمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس الأمم المتحدة – تشرين الأول 1995) ورفع كفاءتها فى التنسيق بين جهود الدول لمجابهة التحديات التى تعرقل وتعيق تحقيق المبادئ الجوهرية فى ميثاقها، كل ذلك يعكس إصرار المجتمع الدولى للضغط فى الإتجاه الصحيح.
كما ويلفتنا تقرير صدر مؤخراً عن منظمة العمل الدولية حول العولمة العادلة، أشار إلى بلوغ النقاش العام حول هذا الموضوع طريقا مسدوداً، فالآراء أسيرة اليقين الأيدلوجى المتحكم بالمواقف المتصلبة والمجزأة فى مجموعة من المصالح الخاصة. إلا أن التقرير المذكور خلص إلى القول بأن “الاختلافات العالمية غير مقبولة أدبياً ولاتطاق سياسياً.والتغيير مطلوب ولكن الأمر لا يتعلق بتحقيق مخطط طوباوى بسحر الساحر.بل هو سلسلة من التغييرات المنسقة على جبهة واسعة بدءاً بإصلاح أجزاء من النظام الإقتصادى العالمى، وصولاً إلى تعزيز الإدارة السديدة على المستوى المحلى.وينبغى بل يمكن أن يتحقق كل ذلك فى سياق الإقتصادات المفتوحة والمجتمعات المفتوحة. وإننا على يقين، رغم اختلاف المصالح، من أن هناك تقارباً متزايداً فى الرأى فى جميع أنحاء العالم حول الحاجة إلى عملية عولمة عادلة وتشمل الجميع “. وأكد التقرير أن الكنولوجيا الجديدة المدعومة بسياسات أكثر انفتاحاً أدت” إلى خلق عالم أكثر تواصلاً من أى وقت مضى. ولا يشمل هذا الأمر فحسب، الترابط المتزايد فى العلاقات الإقتصادية، تجارة واستثمار وتمويل وتنظيم الإنتاج على الصعيد العالمى، ولكنه يشمل كذلك التفاعل الإجتماعى والسياسى بين المنظمات والأفراد فى جميع أنحاء العالم. وإمكانات النجاح هائلة، فالتواصل المتزايد بين الشعوب فى جميع أنحاء العالم يمكن أن يوجَّه نحو إقامة إدارة سديدة مستنيرة وديمقراطية على الصعيد العالمى لمصلحة الجميع. وقد بين الاقتصاد السوقى العالمى عن قدرة إنتاجية كبيرة. وإذا ادير على نحو حكيم، يمكنه أن يحقق تقدماً مادياً لم يسبق له مثيل، وأن يولّد وظائف أفضل وأكثر إنتاجية للجميع، ويسهم إلى حد كبير فى تخفيف حدة الفقر فى العالم…”. وانتهى التقرير إلى سلسلة من الإقتراحات والتوصيات بهدف الإصلاح على المستوى العالمى.
ونقرأ أيضاً فى الصحف لمناسبة اليوم العالمى للإتصالات 17 آيار ما يلى:
“نظم الإتحاد الدولى للاتصالات القمة العالمية لمجتمع المعلومات، بهدف أن تؤدى التنمية الإقتصادية والإجتماعية التى تدفعها تكنولوجيا المعلومات والإتصالات بشكل متزايد، إلى عالم أكثر عدلاً ورخاء وإنصافاً”.
ونختم الأمثلة فى هذا السياق بظاهرة تأسيس الاتحاد الأوروبى، الذى يعرّف عن نفسه بأنه عائلة مؤلفة من بلدان أوروبية ديمقراطية، قررت أن تعمل معاً لخدمة الأمن والسلام. إن هذه الفكرة التى تعود جذزرها إلى الحرب العالمية الثانية، ضمت ست دول فقط تأَّلف منها الإتحاد عشية تأسيسه سنة 1950، ثم أخذ يتوسع خلال الحقب التاريخية المنصرمة بحيث بلغ حالة لم يسبق لها مثيل بانضمام ما مجموعة خمساً وعشرين دولة خلال العام الحالى 2004. كما توسعت مجالات التعاون بين الأعضاء من مجرد التبادل التجارى والاقتصادى عند تأسيسه، إلى مختلف الشؤون والمجالات الحياتية المباشرة مثل حقوق المواطنين، حفظ السلام، الأمن والعدالة، خلق فرص عمل، التنمية المناطقية، حماية البيئة. وكل ذلك بغية تحقيق عولمة تلبى احتياجات كل فرد. ومن انجازاته المدوية السوق الفريد على مستوى اوروبا، توحيد العملة، إضافة إلى تعزيز صوت أوروبا فى العالم.
والملفت فى أنظمة الاتحاد:
*-توسيع إجراءات اتخاذ القرار على أساس الأكثرية المميزة، إلى مجالات كثيرة كانت تحتاج سابقاً إلى الإجماع، وذلك لتجنب شلل عمل المؤسسات.
*-تطبيق إجراءات “التعاون المتقدم الذى يسمح لبعض الدول داخل الاتحاد،وذلك من دون انتظار موافقة الأعضاء الآخرين،بالتعاون فى بعض الميادين.
كما وأنه،ومنذ سنين (شباط 2002) ،يجرى التشاور لصياغة مشروع دستور الإتحاد الأوروبى. ومن المنتظر إقراره بالصيغة النهائية خلال الأيام الراهنة. وهو يوضح مضى المواطنة الأوروبية،كل مواطن أوروبى سوف يستطيع أن يقيم بحرية فى كل أراضى الإتحاد، وأن يعطى له الحق فى التصويت والترشيح فى الانتخابات البرلمانية الأوروبية وفى الانتخابات المحلية فى أى دولة من الدول الأعضاء المقيم فيها. ويؤكد مشروع الدستور مبدأ المشاركة الديمقراطية، وذلك بإنشاء حق المبادرة الشعبية بحيث يستطيع المواطنون الأوروبيون اقتراح قانون على أساس عريضة موقعة من قبل مليون أوروبى… وبالنتيجة، وفى حال اعتماد هذا الدستور ،فإن أوروبا سوف تجتاز مرحلة جديدة نحو الإتحاد السياسى بين المواطنين ودول الأعضاء.
وأكثر من ذلك فإن الإتحاد حافظ على ظاهرة الوحدة مع حماية التنوع،بحيث تكون قراراته أكثر قرباً من المواطن. والملفت فى هذا الإتحاد يوسيع نطاق الشراكة معه لتضم دولاً من خارج القارة الأوروبية.
أما بالنسبة لموضوع الوحدة فى التنوع، فقد شبه حضرة بهاءالله العالم بجسم الإنسان وتفضل بأن المرحلة التى تجتازها شعوب العالم اليوم إنما هى مرحلة تَوَجُّهِها الجماعى نحو البلوغ. وإن تعبيراً كاملاً لمبدأ الوحدة والإتحاد فى التنوع والتعدد سيظهر جلياً من خلال عملية نضوج الجنس البشرى المتنامية. وهنا تبرز المفارقة واضحة فى حقيقة أن كمال وتعقيد تركيب جسم الإنسان هو ذاته ما يسمح للعناصر المكنونه له بتحقيق قدراتها الكامنة المتميزة، فلا حياة للخلية الواحدة إلا بوجود هذا الجسم الذى تنتمى إليه.
إن ما ينطبق على حياة الفرد له ما يحاكيه فى المجتمع الإنسانى. فالجنس البشرى هو كيان عضوى يجسد أسمى مظهر للنشوء والآرتقاء. والحقيقة المتمثلة فى أن الوعى الإنسانى يظهر من خلال تنوع لا محدود فى الأفكار والدوافع الفردية، لا تنتقص بحال من الأحوال من وحدته الجوهرية.
والجميل فى الموضوع أنه صدر حديثاً فى بيروت كتاب بعنوان “وحدة فى التنوع، محاور وحوارات فى الفكر الدينى” لمؤلفه أديب صعب، ذكر فيه أن “الكلام عن وحدة تعسفيَّة تطمس التنوع، أو عن تعددية مطلقة تأبى الوحدة، هو نقيض للحقيقة”،وقال:”نحن نلاحظ على صعيد الذات البشرية أن فى خبرة كل منا تعدد أزمنة وأمكنة وعلاقات، إلا أن هناك حاجة إلى وحدة معنوية-غائية وسط هذا التنوع أو التعدد، وإلا أصيب الفرد بالتهافت أو الجنون الفعلى. ومبدأ الوحدة فى النفس هو ما يسمى الشخصية”. ويضيف الكاتب أن الشيئ نفسه ينطبق على المجتمع، فكل مجتمع تعددى بطبيعته… ولئن كانت الشخصية هى مبدأ الوحدة على الصعيد الفردى، فالدولة هى مبدأ الوحدة على الصعيد الإجتماعى… وخلص إلى دعوة”الإنسان فى بلدنا كى يتلاقى مع الإنسان أينما كان محققاً المثال الرّواقى فى أخوة البشر ومواطنة العالم.

Post a comment or leave a trackback: Trackback URL.

Leave a comment